"كيوبيد" الحب.. كوميديا تطارد عائلة "دان"
تعد الممثلة الفرنسية جولييت بينوش علامة جودة للأفلام الرقيقة الممتعة الصعبة، التي تحتاج إلى أنثى حقيقية من داخلها مهما أقامت أو أزالت من طبقات الماكياج المخادعة.
هذه المرة تقدم لنا وجها كوميديا خبيرا رفعت به كثيرا من أسهم الفيلم الأمريكي الكوميدي "دان يعيش حياته/ Dan in Real Life" 2007 إخراج الأمريكى بيتر هدجز، الذي يمتلك حسا كوميديا راقيا وقدرة على خلق دلالات من أبسط الأشياء.
يقوم سيناريو بيرس جاردنر وهدجز على قصة حب ترى الحياة بمنظور متفائل، تمزج بين كوميديا الموقف والحوار والشخصية لتصنع مجموعة مفارقات مضحكة لا تقصد الإضحاك.
دان برنز (الأمريكى ستيف كاريل) هو الشخصية المحورية التى ينهك الصراع الدرامي نفسه لينسج شبكة حية من داخله ومن حوله، فهو يبدأ معنا ورقة تعريفه لنفسه وهو ينام وحيدا قلقا في إضاءة شاحبة تتخللها أطياف منيرة، يبدو وجهه حزينا بلا حياة من ثقل الهموم والمسئولية.
ومن خلال توظيف مجموعة مشاهد متقاطعة مع التتر، استغرقتنا تفاصيل حياته الصغيرة وهو يقوم بعدة أدوار في وقت واحد.. فهو أب وحيد أمين يهب حياته لتربية بناته الثلاث ما بين الطعام والغسيل والحماية من وجهة نظره، وهو الصحفى الأرمل المشهور بكتابة عاموده المتخم بالنصائح، والحياة عنده باختصار لحظات بسيطة يتنفسها بحكم الروتين بين وصلات النوم.
تشعر بأنفاس مونتاج سارا فلاك وهي تنهج من عبء ملاحقة كل هذه اللحظات المتناثرة بفوضوية حياتية داخل هذه العائلة، مثل الحشائش المراهقة المتراصة على الأرض، ويبدى منهج القطع تعاطفا مع وجهة نظر الأب وهو يحلق على مشكلات بناته المتشعبة.
فالابنة الكبرى جين بيرنز (أليسون بيل) تريد قيادة السيارة لأنها كبرت وهو يرفض المخاطرة، والوسطى كارول (بريتانى روبرتسون) تحب زميلها مارتى لأنها كبرت وهو يرفض الإيمان بالحب المشتعل بعد ثلاثة أيام فقط، والصغرى ليلى بيرنز (مرلين لاوستون) تريد إثبات شخصيتها وهو يرفض الاعتراف أن بناته تكبرن، ولا يتصور مواجهة مشكلاتهن الأساسية مضافا إليها ثلاث تهم أنثوية مفخخة.
سلطة الأب أمام جموح البنات
مواقف خصام وتصالح لا تكتمل، وكاميرات لورانس شير تحاول تقدير هيبة الأب وتكرمه بوضعه في موقف السيطرة في المركز أو في أحد الأركان السلطوية، سواء كان بين بناته أو بإفراغ الكادر من حوله بقدر.
لكن الحقيقة أن بناته هن مالكات السلطة الحقيقية، بينما ينحصر كل دور الأب فى سجن رد الفعل وليس حرية الفعل. وأخيرا تنتهى المشاهد المتقاطعة مع التتر بوصول عائلة دان إلى بيت والديه بعد إتمام مهمتها بنجاح، فحتى لو استعرضنا ألف يوم قبل هذا اليوم فلن يفرق كثيرا طالما انفتح الستار بعد رحيل الأم..
للمرة الثانية تتولى الكاميرات مهمة التعريف بوضع دان في عائلته الكبيرة، عندما احتجزته فى دوائر حصار بصرية مسالمة لطيفة، تفيد بإيجابية في منح الإحساس بالدفء والأمان والاحتماء بالكثرة، لكنها تطغى بسلبية على خصوصية من لا يتمتع بملكية هذه الخصوصية أصلا وتكشف وحدته، فكل حياة دان عامود صحفي فارغ من كلماته دون وعد بامتلائه ولو بحبر سري!
كل هذا كان المخرج يتعاون مع السيناريو في ترسيخ مدى احتياج دان الصامت الصارخ، لظهور شخصية مثل آن ماري (جولييت بينوش) التي قابلها في إحدى المكتبات، فترتفع حرارة الكاميرات والمونتاج معا بفعل العدوى من حرارة اللقاء بين البطلين. ويقوما من أجلهما برحلات مكوكية مجتزئة لالتقاط بهجة التعارف الأول، الذى سيلعب دور حجر الأساس في كل التطورات القائمة فيما بعد، ويتنزها خلفهما عبر الممرات والمساحات الضيقة جدا، بين تجويفات الكتب، أمام وخلف زجاج الكافيتريا من زوايا مختلفة، حتى استقرا في مواجهتهما بعد التأكد من غزو الحب قلبهما.
هنا ينفتح الطريق أمام الكوميديا اللفظية خاصة من ماري، التي اندفع لسانها في حوار عبثي لتقف كل كلمة ضد الأخرى، كتعبير دقيق رقيق عن فرحة العثور على الحب الحقيقي. فماري تريد أن تسمع وتضحك، ودان يريد أن يبحث عن وجوده ويتكلم، لهذا احترمت الكاميرات حالتهما وتركت لهما مساحات كبيرة للحركة والكلام، والتعبير عن اندفاع العواطف البربرية المتحررة من القواعد الأبوية العابسة.
كافأ القدر دان بإقناعه بالحب من أول نظرة بالدليل العملي، لكنه عاقبه بعنف عندما اكتشف أن ماري هي حبيبة شقيقه ميتش بيرنز (الأمريكي دين كوك)، وأنها ستقيم معه فى بيت واحد ليال طويلة!
من أهم إيجابيات هذا الفيلم اختيار كيف ومتى وأين تتدخل الشخصية داخل الكادر ثم تخرج منه إذا خرجت، والعثور على حلول درامية شديدة البساطة والذكاء في الانتقال من موقف بسيط أو من رد فعل إلى آخر ثم البدء بموقف بسيط من جديد، والكثرة المبررة لمشاهد الألعاب الطفولية لأسرة متماسكة متنوعة الأفراد والأعمار تقضي إجازتها بحرية وصدق، وكيفية تعاون الكاميرات والمونتاج في تجسيد الكيمياء الروحية العاطفية بين دان وماري بالصورة الصريحة أو بالشريط الصوتي لإشعال أشواق أعمق بينهما. وفي النهاية نكتشف نحن أن الاثنين متفرغان لمراقبة بعضهما وهما لا يعرفان أو يعرفان؛ لن تفرق كثيرا.
ماري ..جنية البحر
في جميع الحالات وصل تأثير ماري الساحر وأفاض حتى أغرق دان، فهي مثل جنية البحر التى تحمل قارورة ممتلئة عن آخرها بحب الحياة وحيويتها وجاذبيتها، أضف إلى ذلك إيجابيات كيفية الحصول على المعلومة بالهمس أو بالإعلان أو بالتسريب، والتنوع فى الإمساك بردود أفعال لطيفة للتعبير عن المشاعر والأحاسيس، مثلما وضع دان وجهه بالكامل في الفريزر كي يبرد أعصابه المنفجرة، ومثلما عاقبته ماري على خروجه مع الجميلة روث (إميلى بلانت) بسندوتش متفحم أسود مثل لون قلبها من الغيرة..
اكتفى المؤلف الموسيقي مطرب البوب النرويجي سوندر ليرش بنقرات جيتار خفيفة تميل إلى التأمل والتفكير مثل دان، ليقيم مع الحوار مسامع لفظية موسيقية تجمع بين عنف الحرمان وبلاغة الحكمة؛ لهذا لهم حق، النقاد، في أنهم يصنفون الفيلم واحدا من أفضل الأفلام الكوميدية في العام الماضي.
لأول مرة يتفق الأب وبناته على الاعتراف بكيوبيد الحب (إله الحب عند الإغريق)، فهو حقيقة ملعونة يجري منه بعض الناس ويجري وراءه بقية الناس!